فصل: سورة عم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (35- 37):

{هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)}
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} أي لا يتكلمون {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وفَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه: 108] وقد قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} [الصافات: 27] فقال له: إن الله عز وجل يقول: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان.
وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون.
وقيل: إن هذا وقت جوابهم {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وقد تقدم.
وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب.
وقال الجنيد: أي عذر لمن أعر ض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ ويَوْمُ بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر، أي تقول الملائكة: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ويجوز أن يكون قوله: انْطَلِقُوا من قول الملائكة، ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت.
وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لاضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين، لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب.
وقال الفراء في قوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} الفاء نسق أي عطف على {يُؤْذَنُ} وأجيز ذلك، لان أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] بالنصب وكله صواب، ومثله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ} [البقرة: 245] بالنصب والرفع.

.تفسير الآيات (38- 40):

{هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من المبطل. {جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. {فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي حيلة في الخلاص من الهلاك {فَكِيدُونِ} أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك.
وقيل: أي {فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي قدرتم على حرب {فَكِيدُونِ} أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحاربونني فاليوم حاربوني.
وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم.
وقيل: إنه من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون كقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55].

.تفسير الآيات (41- 45):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث.
وفي سورة يس {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ} [يس: 56]. {وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون. وقراءة العامة ظِلالٍ. وقرأ الأعرج والزهري وطلحة {ظلل} جمع ظلة يعني في الجنة. كُلُوا وَاشْرَبُوا أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. ف كُلُوا وَاشْرَبُوا في موضع الحال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الظرف الذي هو فِي ظِلالٍ أي هم مستقرون فِي ظِلالٍ مقولا لهم ذلك. {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعمالهم في الدنيا.

.تفسير الآيات (46- 47):

{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)}
قوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من لِلْمُكَذِّبِينَ أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا. {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} أي كافرون.
وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: ارْكَعُوا أي صلوا لا يَرْكَعُونَ أي لا يصلون، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود». يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ.
وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا.
وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد.
وقيل: الامر بالايمان لأنها لا تصح من غير إيمان. قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شيء يصدقون! وكرر: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لمعنى تكرير التخويف والوعيد.
وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.

.سورة عم:

وتسمى سورة النبأ.
سورة عم مكية وتسمى سورة النبأ وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 5):

{عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)}
قوله تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}؟ عَمَّ لفظ استفهام، ولذلك سقطت منها ألف {ما}، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك فيم، ومم إذا استفهمت. والمعنى عن أي شي يسأل بعضهم بعضا.
وقال الزجاج: أصل عَمَّ عن ما فأدغمت النون في الميم، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في يَتَساءَلُونَ لقريش.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟ وقيل: عَمَّ بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون. قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فعن ليس تتعلق ب- يَتَساءَلُونَ الذي في التلاوة، لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه ب- يَتَساءَلُونَ الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون، قاله المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله: عَنِ مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبإ العظيم؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. والنَّبَإِ الْعَظِيمِ أي الخبر الكبير. {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن، دليله قوله: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن.
وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب.
وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. وكَلَّا رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو {ألا} فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث، قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} [النبأ: 17] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت.
وقال الضحاك: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم.
وقيل: بالعكس أيضا.
وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر، لقوله تعالى: {يَتَساءَلُونَ} وقوله: {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}. وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.

.تفسير الآيات (6- 16):

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)}
قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً}: دلهم على قدرته على البعث، أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} [البقرة: 22] وقرئ: {مهدا}. ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه {وَالْجِبالَ أَوْتاداً} أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} أي أصنافا: ذكرا وأنثى.
وقيل: ألوانا.
وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. {وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ} جَعَلْنا معناه صيرنا، ولذلك تعدت إلى مفعولين. سُباتاً المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة، أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات.
وقيل: أصله التمدد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا.
وقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتا: حلقه وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين، قال الشاعر:
ومطوية الاقراب أما نهارها ** فسبت وأما ليلها فذميل

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً} أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم، قاله الطبري.
وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. {وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك ف- مَعاشاً على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً} أي سبع سموات محكمات، أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. {وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً} أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق، لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج، يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلالا توهج.
وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلألئا. {وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً} قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب.
وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم:
تمشي الهوينى مائلا خمارها ** قد أعصرت أوقد دنا أعصارها

وقال آخر:
فكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

وقال آخر:
وذي أشر كالأقحوان يزينه ** ذهاب الصبا والمعصرات الروائح

فالرياح تسمى معصرات، يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الاعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر.
وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الأقوال صحاح، يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات ماءً ثَجَّاجاً وأصح الأقوال أن المعصرات، السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان {بالمعصرات} لكان الريح أولى.
وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا، ومنه قرأ بعضهم {وفيه يُعصَرون} والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت، يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته، قال الراجز:
جارية بسفوان دارها ** تمشي الهوينى ساقطا خمارها

قد أعصرت أو قد دنا أعصارها والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض، لان الاعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الاعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر، يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر.
وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شيء بعد شي، ومنه العصر بالتحريك للملجإ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة يوسف والحمد لله.
وقال أبو زبيد:
صاديا يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود

ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر، لأنها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا.
وفي قراءة ابن عباس وعكرمة {وأنزلنا بالمعصرات}. والذي في المصاحف مِنَ الْمُعْصِراتِ قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: مِنَ الْمُعْصِراتِ أي من السموات. ماءً ثَجَّاجاً صبابا متتابعا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب.
وقال الزجاج: أي الصباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب.
وقال عبيد بن الأبرص:
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله ** وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح

وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن الحج المبرور فقال: «العج والثج» فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا.
وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد. قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ} أي بذلك الماء {حَبًّا} كالحنطة والشعير وغير ذلك {وَنَباتاً} من الأب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. {وَجَنَّاتٍ} أي بساتين {أَلْفافاً} أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالاوزاع والاخياف.
وقيل: واحد الالفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال:
جنة لف وعيش مغدق ** وندامى كلهم بيض زهر

وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف.
وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري: ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم.
وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالاغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.